النهب المسلح في قلب الخرطوم تشهد تطوراً مستمراً في الجريمة

ان تفقد ما تملك وانت تتجول نهارا فى اسواق او اطراف العاصمة القومية أمر لم يعد مثيرا للدهشة، هذا ما تؤكده الحوادث الكثيرة التي تعتبر تلك الأطراف مسرحا لها. والحديث حول حوادث السرقة أصبح محور التآنس في المجالس، والجميع عنده منها قصة أو اثنتان أو أكثر.
ونعود بالزمن إلى ما قبل سنتين من الآن تحديدا في محلية بحري، اثنان من طلاب كلية الزراعة قاما بتهديد صاحب محل للموبايلات «الهواتف النقالة» واستوليا على جميع مقتنياته تحت تهديد السلاح النارى، وهناك الكثير من الافادات التى تحصلنا عليها من جناة ومجنى عليهم، فالصحف الصادرة بالخرطوم امس الاول حملت صفحاتها خبرا عن مجموعة قامت بعملية نهب فى وضح النهار، جاءت حيثياته كالآتى:
«شهدت منطقة أبو سعد بأمدرمان ظهر أمس حالة من الفوضى والهلع وسط المواطنين، عندما هجمت مجموعة مسلحة بالسواطير والسكاكين على بعض المحلات التجارية وبعض المواطنين العزل، بمساعدة عدد من الركشات.. مما نتج عنه إصابة صاحب دكان بمربع «8» «70» سنة، وابنه «25» سنة بإصابات متفاوتة، عندما حاولت هذه المجموعة السطو على محلاته، بعد نهب أجهزته الجوالة وبعض المبالغ المالية».. هذه الجزئية وردت على صدر صحيفة «الانتباهة» كخبر رئيسى امس. وتفاصيل العملية التى قادها عشرون فرادا تمت فى تمام الحادية عشرة صباحا قبل ان يهربوا الى المربعات، وهي المنطقة التى تقع غرب ابو سعد فى زمن وجيز قدره شهود عيان حسب ما جاء فى الخبر بسبع دقائق، الامر الذى يفتح الباب امام مجموعة من التساؤلات وينذر بالخطر.
وبعد ان كان ذلك همساً فى الفترة الماضية، فالقصص عن المخاطر التى تحيط بمناطق غرب أم درمان لم تكن وليدة هذا الحدث،
فالشكاوى عن انحسار الأمن والطمأنينة مع انسدال أستار الظلام، أي بعد الثامنة مساءً، كلما توغلت غربا من كوبرى الانقاذ، لم تنقطع منذ سنوات، دون ان تجد الاهتمام، ففى بدايات العام الجاري وفي جلسة مسائية جمعتني مع مجموعة من الشباب، رووا لى ما عايشوه من عذابات فى رحلة ايابهم اليومية الى مساكنهم التى تقع غرب منطقة المربعات، فكانوا يؤكدون لي أن المنطقة لا يوجد بها شرطة، وتسرح فيها عصابات تفرض عليها سلطتها بمجرد ان تغيب الشمس، ولا مفر لمن يرميه حظه العاثر فيها من الخروج منها كما دخل، بل غالبا ما يفقد كل ما يملك من «نقود او هاتف نقال او غيره من الاشياء ذات القيمة». ومقاومة هؤلاء المجرمين عواقبها وخيمة ومكلفة، وقصة الشاب قد تقرب الصورة أكثر، والشاب المعني كان عائدا إلى منزله الذي يقع في منطقة جبرونا فى مساء احد الايام، ووقع فى ايدى مجموعة من النصابين، وعندما حاول ان يتمسك بمقتنياته وهى عبارة عن جهاز موبايل، كان مصيره كسر فى اليد وفقدان ما يملك من مقتنيات، لينطبق عليه المثل «ميته وخراب ديار»، الا ان هناك معلومات تحصلت عليها من احد «الجوكية» وهو الاسم الذى يطلق على قائد الجماعة ويدعى «ل. م» كان مقبوضا عليه فى مارس من العام الماضى تحت طائلة مجموعة من المواد الجنائية تأتى فى مقدمتها مادة الاحتيال، فقد قال لى انهم قسموا المنطقة وكل جزء تملكه مجموعة، ولا احد يدخل على منطقة احد، هذا هو العرف السائد، ويتم على مقربة من اقرب معبر يؤدى الى وسط الخرطوم من جهة الفتيحاب، لكنه عاد وذكر لى انه الآن متهم فى عمليات اخرى لا تختلف عن المضمون الذى نسلط عليه الضوء الآن، فهم مجموعة من الشباب تم القبض عليهم بواسطة شرطة المباحث بعد ان كثرت البلاغات حول مجموعة مجهولة تقوم باختطاف المارة مدعية انتماءها إلى قوات الشرطة، بعدها تقوم بتجريد الضحية من كافة متعلقاته، هذا الحدث كان فى نهايات شهر مارس من العام الماضى، فهم يستخدمون مجموعة من السيارات الصغيرة، وقال لى انهم يتحركون دائما في المناطق الطرفية وينتقون الضحية باحكام قبل أن يقوموا بإيهامها بشكل لا يتسرب اليه الشك.. هذا الحديث دار بيننا.. واللافت للنظر فى القضية ان الروابط بين هؤلاء الاشخاص منعدمة، فلا لون ولا عرق يجمعهم، فقط السلوك الاجرامى، ليؤكد ما سألت عنه مجموعة من المهتمين بالسلوك الانسانى عن الجريمة وسلوكها فى مجتمع متعدد، لكن دائما الصور الذهنية فيه تميل فى اتجاهات محددة.. وافادونى بأن الجريمة بشكل عام هى سلوك مغاير للطبيعة، والشخص المجرم ليست له محددات بعينها، لكن البيئة والتنشئة هي التي تؤثر على طبائع الشخص، بالاضافة الى ان المجتمع السودانى فى الآونة الاخيرة ازدادت فيه الشروخ، مما جعله ارضا خصبة لمجموعة من الجرائم ذات الشكل الغريب والدخيل على المجتمع، والامر الآخر هو التحول السريع الذى شهده السوق السودانى، فالفروقات الاقتصادية مقارنة بالسنوات الماضية اضحت كبيرة للغاية، فهناك فئات غنية واخرى فقيرة ومعدمة، مما يولد احقادا وحسدا تتعدد صور التعبير الرافض له بعدة أشكال، لكن الناظر بعمق الى المناطق التى بدأت تظهر فيها مثل هذه الجرائم، لا يستطيع ان يجد تاريخا مشتركا لقاطنيها، فهم قد جاءت بهم الظروف المختلفة من حروب وبحث عن سبل الحياة فى منطقة كانت تمثل لهم الخلاص، ليصطدموا بواقع مغاير لما صوره لهم عقلهم، وتنعدم فيه فرص العمل والمضايقات لكسب العيش بالطرق السليمة، كل هذه الاشياء مجتمعة تولد سلوكا عدوانياً وانحرافاً تصعب السيطرة عليه، وهذه بداية لما سيأتى فى المستقبل، ما لم تقم الجهات المسؤولة باحداث معالجات ليست فى الشق الامنى فقط، فالجانب الاجتماعى والدراسات لهذه الظواهر ورصدها وايجاد الحلول والبدائل هى الاهم.
والجانب الآخر من عمليات النهب التى سلطنا عليها الضوء تبدو باعتبارها ظاهرة تحمل في طياتها قليلا من التقصير الذى يتحمله المجنى عليهم، فعملية الابتزاز تشير الى ان المواطن البسيط يفتقر الى ابسط مقومات الالمام بحقوقه، وهذا الامر يتطلب من جهاز الشرطة القيام بتوعية المواطن وتمليكه كامل حقوقه التى من بينها المطالبة بهوية رجل الامن قبل تنفيذ اوامره، لان اغلب المجنى عليهم فى مثل هذه العمليات، عندما تحدثت الى مجموعة منهم، اتفقوا على ان العملية كانت بالنسبة لهم فيها شىء من الشك، لكن ليس بمقدورهم أن يعترضوا على الامر، بمجرد ان قالوا لهم انهم من الشرطة، هذه الجزئية تفيد بأن المواطن يفتقر الى ثقافة الحقوق، مما دعانى لسؤال مدير ادارة المباحث والتحقيقات الجنائية اللواء عابدين الطاهر فى حوار أجريته معه من قبل نشر بصحيفة «الصحافة» فقال لى ان على جميع المواطنين ان يسألوا عن هوية اى شخص ادعى الانتماء إلى الأجهزة الأمنية، قبل أن ينصاعوا إليه، فهذا من اول الحقوق التى تدفع الى القيام بالواجبات. وذكر أن ما يدور بين الناس بأن الشرطى لا يسأل خطأ، فالشرطى المنتظم بالزى يعتبر ذلك كافياً، ولكن الذى يرتدى زياً مدنياً له بطاقة تعرف به. وختم حديثه بأن لا احد يُظلم فى اقسام الشرطة لو كان على حق.
فهذه الظاهر التي بدأت تظهر على السطح بعد أن كانت فى سابق السنوات موجودة لكن بشكل محدود، تثير المخاوف، وهذا ما شهدت عليه جرائم عصابات الابتزاز التى نفذت اكثر من خمس جرائم خلا ل «48» ساعة فى العام الماضى، ولم تتمكن من مواصلة مخططها الاجرامى بعد ان قامت المباحث بالقبض عليهم فى وقت وجيز، لكن الامر الآن يحتاج الى اكثر من عمليات التقصى والقبض، فقد اصبح بشكل مختلف وفى وضح النهار، لذا لزم البحث عن حلول شقها الامنى لا يغلب على الاخريات .