قصيدة النثر بين الفاعلية والانفعال

لم يكن غريباً أو مزعجاً ان يرفض أهل العامود قصيدة النثر، فمن المعتاد جداً ان الاشياء الجديدة لا يرحب بها إلاَّ من يمتلكون أرواحاً قلقة وعيوناً باصرة.. إن هذا الرفض غير مزعج لأنه متوقع أولاً ولأنه غير مؤثر ثانياً، وبحسبة سطحية قليلاً يتضح لنا ان قصيدة النثر تكتسب مع مرور الوقت شرعية الأمر الواقع، وجاذبية الموضة التي لا تقاوم، فيما يغادر كتاب العامود وقراؤه عالمنا الفاني واحداً إثر اخيه، حتى انه ربما أتى وقت لا يجد فيه منظمو مهرجانات الفولكلور الشعري شاعراً عامودياً يدعونه.
وإذا تركنا هذه الطريقة نصف الساخرة وصرنا حازمين تماماً فإن ثمة شيئاً مزعجاً للغاية لدى شعراء النثر، إنه ذلك الرفض المستخف بالقصيدة التقليدية، واعتقد اننا يجوز ان نسأل ما هو وجه رفض النثريين للعامود، هل يعتقدون انه شكل تعبيري غير جميل مثلاً، أم هو كذلك ولكن قد عفا عليه الدهر واستحدث الانسان شكلاً أكثر منه جمالاً وبالتالي لم تعد هناك ضرورة لاستعماله، أم أن النثريين لديهم نوعية معينة من الرؤى ويعتقدون ان العامود شكل غير موات للتعبير عنها.
على أية حال، ليس من الصعوبة ادراك قيمة الشعر العامودي، فمن النزق المبالغ فيه الإيحاء بأنه خاو إلى هذا الحد، فهو شكل ازدهر عبر أزمنته القديمة والحديثة، وتمكن شعراء عديدون من طرح ذواتهم عبره، كما انه تطور كلما سنحت له فرصة، مروراً بالرباعيات والتواشيح حتى التفاعيل المعاصرة، ثم ان طرح النثر كبديل حصري للعامود، ذلك الطرح الذي يتضمن نفياً قطعياً لقيمة العامود وامكاناته الفنية، إنما هو طرح ينطوي علي مبالغة.
يمكن ان نرى هذا الاستخفاف كنوع من رد الفعل على انكار العاموديين وأبنائهم التفعيليين لقصيدة النثر ، ان التقليديين يعتقدون ان للشعر شكلاً واحداً فحسب، هو هذا العامود وبدرجة أقل التفعيلة، لذلك يقول معظمهم ان الشكل النثري لا ينتهي إلى الشعر «الذي يعرفونه».
إن موقف التقليديين يتأسس على تقييد حرية الشاعر في صياغة رؤيته، أي انهم يعترفون بحرية الشاعر في احترام رؤاه فحسب: دون أي اعتراف بحقه في اختيار وخلق الاشكال التعبيرية التي تمثل في مستواها العميق تجريداً لرؤية الشاعر، بالمقابل، يرى الثوار النثريون ان الشكل العامودي قد صار فقيراً بسبب التكرار، وان الأمر لم يعد يحتمل أكثر، فاصدروا فرمانا حرموا بمقتضاه الشكل التقليدي على الشاعر، أي انهم لم يعودوا يعتبرون القصيدة التقليدية المعاصرة شعراً.
وبصورة أو اخرى تم ايجاد صلة ما لهذا الصراع الفني ذي الطابع الاقصائي بالصراعات السياسية والاجتماعية حتى صار له بعد ايديولوجي دوغمائي نوعاً، وفي واقع الأمر لا يبدو هذا المنظور جانحاً فالعامود هو النسخة المؤسسية للشعر التي يتم تبنيها وتعميمها باستمرار، مما يجعلنا نتصور ان التأكيد المؤسسي الدائم عليه، ونفى كل ما عداه، لا يعدو في بعض جوانبه ان يكون تأكيداً على الثقافة المستقرة التي يمكن اعتبارها حقلاً لفاعلية البنيات الاجتماعية والسياسية المهيمنة، على الجانب الآخر يبدو النثر كما لو كان نسخة شعرية غير مؤسسية، هامشية وغير متبناة، محرومة من الرعاية ومنبوذة.
بعيداً عن كل هذا الجدل، وإذا حاولنا النظر الى المسألة عبر منظور آخر، فإن القصيدة التقليدية هي الشكل الشعري الوحيد الذي تم ترسيخه عبر قرون، لذلك فهي تمارس تأثيراً قوياً وسرياً على القصيدة الجديدة، تأثيراً مقلوباً، هنا بالضبط يكمن ما ندعوه اشكالية كينونة، فالنثر ما يزال منفعلاً بالعامود، مسكوناً بهاجس كفاحه ضده، ضد بنيته الثقافية، دون ان يكون فاعلاً بما يكفي في اغلب الاحيان لنسمعه هو عوضاً عن ان نصغي الى ضده الافتراضي، إن دعوى هدم العامود وهدم ما يمثله، رغم صوتها العالي، لتثير فينا ارتياباً عميقاً عبرنا عنه سابقاً حول تلك المساومة التي ربما تتم في الظل، ما بين ثقافة قارّة لها انظمتها الفكرية والقيمية، وثقافة تعلن للملأ أنها جديدة، تمتلك انظمة اخرى، أو لا تمتلكها.
كما ان تلك النبرة الأخلاقية الحادة التي ترن تبدو غير مستساغة من وجهة نظرنا الاساسية التي كما حدث سابقاً، وكما سيحدث لاحقاً لا بد، نجدنا مجبرين على اشهارها وهي ان الفن يكون فيما وراء الاخلاق. ان قصيدة النثر في واقع الأمر لم تستطع ادراك نفسها إلاَّ كنقيض للعامود، إلاَّ من منظور علاقتها الصراعية مع القصيدة التقليدية، ان على شعراء النثر أن يجتازوا الضجة التي اقتعلوها حول كونهم متمردين، لأن إعلان التمرد وحده لم يعد كافياً للتأثير على القاريء، فمثلما اخطأ الشعراء التقليديون الرديئون منهم حين اكتفوا باجترار هيبة العامود وجماله الغابر، فان اعلان الثورة في حد ذاته لا يجعل من الجديد فناً.